والاعتزاز به والحب له والتضحية من أجله مما حمده الإسلام وحض عليه، حتى قال القرآن الكريم: "ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم". النساء: 66. فقرن الخروج من الديار والأوطان ببذل المُهَجِ والنفوس والأرواح.
وفي الهجرة كلنا يحفظ قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخاطبا مكة: "والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت"، وقال وهو بالمدينة: "اللهم حبِّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد ، وبارك لنا في مُدّها وصاعها".
وفرض الجهاد فرضا عينيا على كل مسلم ومسلمة حال احتلال الأوطان للدفاع عنها والذود عن حياضها، فتخرج المرأة بغير إذن زوجها، والابن بغير إذن أبويه، والعبد بغير إذن سيده.
لكن أحيانا يقل هذا الانتماء لأسباب عديدة، منها عدم الوعي بأهمية الوطن وقيمة الوطنية في الإسلام، ومنها فقر موارد الوطن الذي يحيا فيه الفرد فلا يجد ما يقيم له حياة تضمن له الكرامة والرجولة والعفاف، ومنها عدم شعور الإنسان بالأمان والاحترام في وطنه، ومنها معاملة الإنسان معاملة لا تليق بآدميته، ومنها الاستبداد والظلم الاجتماعي الذي يقع على الناس في وطن من الأوطان.
ولا تخطئ عين المتابع لنفسيات المصريين ـ سواء بالداخل أم بالخارج ـ والمتتبع لمنحنى الانتماء في نفوسهم ، أنه في حالة تدنِّ سحيق، وقد ظهر هذا التدني بصورة كبيرة في العشر سنوات الأخيرة؛ حيث الظلم الواقع على الناس سواء كان ظلما اجتماعيا أم اقتصاديا أم سايسيا، أم نفسيا، أم ماديا.
ولقد ازداد انحدار الشعور بالانتماء بشكل مخيف في الأيام الأخيرة؛ فحوادث الفساد والاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي ترشح لأكثر من هذا وأشد، ما له عواقبه الخطيرة على النسيج الوطني للمجتمع.
لكن مع ذلك بقيت ثلة ممن أهمهم أمر وطنهم، وعز عليهم أن يروا ما يحدث لهذا الوطن من تفسخ وانهيار ثم يتركوا وطنهم مُؤْثرين سلامتهم الشخصية ضاربين بمستقبل البلاد عرض الحائط.
فضَّلت هذه الثلة أن تبقى في مصر بالرغم مما تعانيه، ومما يمارس ضدها من إجراءات تعسفية وظلم لا يطاق، وقدمت المصلحة العليا لمصر على مصالحهم الشخصية.
حتى لو كان الثمن أن يقبعوا في السجون بلا ذنب ولا جريرة، وتصادر أموالهم، ويحرموا من ممارسة أدنى حقوقهم الطبيعية التي يمارسها أي إنسان في وطن من الأوطان.
وأذكر من هؤلاء ـ على سبيل المثال لا الحصر وإلا فالأمثلة يصعب حصرها في بلد مثل مصر ـ المهندس محمد خيرت الشاطر، الذي قال عنه د. حلمي القاعود: المفكِّر المسلم العالِم النابغة، الذي تعلَّم في الغرب من أجل أن تكون بلادُه قويةً مستغنيةً بذاتها عن الأعداء المتوحِّشين، وكان يمكنه أن يكون صاحبَ مكانةٍ عظمى في أية دولة من دول الاستعمار التي تعرف قيمة العلم والعلماء، بغضِّ النظر عن انتماءاتهم الفكرية والدينية والسياسية.
والأستاذ الدكتور محمد علي بشر أستاذ الهندسة الفذ، صاحب العقلية المتوازنة والتربية العالية الذي له نشاطاته المعروفة؛ حيث سافر إلى معظم دول العالم في مهام علمية ونقابية، ومن هذه الدول: أمريكا- بريطانيا- فرنسا- ألمانيا- روسيا- كازاخستان-أوزباكستان- تركيا- باكستان- ماليزيا- بنجلاديش- تايلاند- تونس- الجزائر- ليبيا- السودان- الأردن- سوريا- لبنان، وغيرها.
والدكتور عصام العريان، المفكر البارز، والسياسي المحنك، والمتحدث القدير، والمحاور اللبق، والمثقف الواعي، الذي له من الشهادات العلمية والخبرات العملية، والتاريخ الحركي والدعوي والجهادي ما يكون شرفا لأي بلد يحل فيه وينزل عليه.
والدكتور حلمي الجزار، صاحب العقلية التنظيرية الفذة، والتفكير الحركي الواقعي البصير، والحجة القوية المقنعة، والعمل الدعوي الدءوب، والجهاد الحركي المتواصل.
والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، من الوجوه البارزة في الحركة الإسلامية، وأصحاب التجميع لا التفريق، والتواصل مع كل الأطياف بعيدا عن التعصب والانغلاق.
والدكتور سناء عبد الله أبو زيد، الداعية الرباني، التقي الخفي، الذي يعمل في صمت، وأحسبه ممن قيل فيهم: إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا.
والأستاذ الدكتور محمد مرسي، الأستاذ الجامعي المرموق، صحاب الشخصية المتوازنة: إيمانيا وفكريا وسياسيا وتربويا، وصاحب المواقف المشهودة، والكلمات المعروفة، القوي الصلب، الصابر المحتسب.
هؤلاء جميعا وغيرهم عشرات بل مئات من الإخوان، ولعل في غير الإخوان أكثر منهم علما وحلما، وخبرة وتجربة، كانوا يستطيعون أن يهاجروا إلى أي بلد لينعموا فيه بالحرية والأمان والسلامة والاطمئنان، وبخاصة أن لديهم من الطاقات والقدرات والملكات ما يجلب لهم أعظم الأعمال وأكبر الأموال، لكنهم آثروا مصلحة المجتمع على مصلحتهم، وأعلوا من المصلحة العامة في مقابل المصلحة الخاصة، حتى لو كان ذلك على حساب راحتهم وسلامتهم، أو أهليهم وأبنائهم، أو أعمالهم وتجاراتهم، أو حريتهم وكرامتهم.
ولولاهم وغيرهم بعد الله لطارت بقية الثبات في قلوب الشباب، وانتهت بقية الانتماء التي تتأرجح في النفوس يمنة ويسرة توشك أن تنقضي إلا بعون من الله وابتغاء رضاه.
هموم كثيرة تجتاح النفس، ومعاناة كبيرة تعاني منها الأجيال، وحيرة بادية في الأفكار والعيون في ظل هذا الفساد، وتحت نير القهر والاستعباد وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فاللهم أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين.
-----
وصفي عاشور أبو زيد